د. راغب السرجاني
العدل خُلُق كريم وصفة عظيمة جليلة، محبَّبة إلى النفوس، تبعث الأمل لدى المظلومين؛ لذلك جاء أمر الله صريحًا في القرآن الكريم، فقال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ } [النحل: 90].
كما أمر الإسلام بالعدل مع العدوِّ رغم شدَّة كراهيتنا لأفعاله، فقال تعالى : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى
} [المائدة: 8]. فالعدل يُعيد الأمور إلى نصابها، وبه تؤدَّى الحقوق
لأصحابها، وما وُجِد في قوم إلاَّ سعدوا، وما فُقِد عند آخرين إلاَّ شقُوا.
رسول الله يعلم أصحابه العدل
لقد حرص رسول الله على تعليم أصحابه قيمة العدل مبيِّنًا لهم عظيم أجره يوم القيامة، فقال رسول الله : " إِنَّ
الْمُقْسِطِينَ فِي الدُّنْيَا عَلَى مَنَابِرَ مِنْ لُؤْلُؤٍ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ بَيْنَ يَدَيِ الرَّحْمَنِ بِمَا أَقْسَطُوا فِي الدُّنْيَا " [1].
هكذا غرس رسول الله صفة العدل في قلوب أصحابه ، ثم كان المثل الأعلى في تنفيذ تلك الأوامر، فكان خُلُقُ العدل غريزة فُطر عليها رسول الله منذ حداثة سنِّه؛ فقد شهد حلف الفضول [2]
الذي عقده نفر من قريش لنصرة المظلوم في دار عبد الله بن جُدْعان، وذلك
قبل بَعثته، وكذلك لمَّا اختلفت قريش على رفع الحجر الأسود عند بناء الكعبة
رضيتْ به حكمًا عادلاً؛ مع أن قبيلته قبيلة بني هاشم طرف في القضية، إلاَّ أنهم من فرط ثقتهم في عدله قبلوا به حكمًا.
حرصه على العدل وخوفه من الظلم
لقد حرص رسول الله على العدل، وبعدما أرسله الله للعالمين أقام رسول الله العدل بين أصحابه، وجعله شِرعة ومنهاجًا في كل موقف وكل لحظة، ولعلَّ من أشهر مواقف النبي التي ظهر فيها عدله وقوَّته في الحقِّ، ما روته السيدة عائشة - رضي الله عنها - بقولها : إن قريشًا أهمَّهم شأن المرأة المخزوميَّة التي سرقت، فقالوا : ومن يكلِّم فيها رسول الله ؟ فقالوا : ومَنْ يجترئ عليه إلاَّ أسامة بن زيد حِبّ رسول الله. فكلَّمه أسامة، فقال رسول الله : " أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ؟! ". ثم قام فاختطب، ثم قال : " إِنَّمَا
أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ
الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا
عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَأيْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ
سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا " [3].
ونجد رسول الله دائم الخوف من وقوع أي ظلم أو إجحاف بالناس، فعن سويد بن قيس قال : جلبتُ أنا ومخرفة العبدي بزًّ [4]من هجر، فجاءنا رسول الله، فساومنا سراويل، وعندنا وزانٌ يزن بالأجر، فقال له النبي : " يَا وَزَّانُ، زِنْ وَأَرْجِحْ " [5].
لقد التزم رسول الله
بالعدل والقسط منهجًا له طيلة حياته ، وامتلأت كتب السيرة بمواقف نبويَّة
يتعجَّب لها القارئ من قوَّة رسول الله في تمسُّكه بالعدل والقضاء الحقِّ
على نفسه وأهل بيته، وعلى المحيطين به، سواء كان هذا العدل في حدٍّ من حدود
الله، أو في الأمور السلميَّة أو الحربيَّة، وغيرها من الأحوال العامَّة، وقد أراد أحد المنافقين أن ينتقص من عدل رسول الله ، فردَّ عليه وَيْلَكَ ! وَمَنْ يَعْدِلُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ ؟ قَدْ خِبْتُ وَخَسِرْتُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ ..." [6].
عدل رسول الله مع زوجاته
كما التزم النبي - أيضًا - بالعدل مع زوجاته حتى في أبسط الأمور؛ فعن أنسٍ قال : كان النبي عند بعض نسائه، فأرسلتْ إحدى أُمَّهات المؤمنين بصحفةٍ [7] فيها طعامٌ، فضربت التي النبي في بيتها يد الخادم فسقطت الصَّحفة فانفلقت، فجمع النبي فِلَقَ الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطَّعام الذي كان في الصَّحفة ويقول : " غَارَتْ أُمُّكُمْ ".
ثمَّ
حبس الخادم حتى أُتِيَ بصحفةٍ من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة
الصحيحة إلى التي كُسِرَتْ صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كَسَرَ[8].
عدل رسول الله مع غير المسلمين
وامتدَّ قضاؤه العادل إلى غير المسلمين فعن عبد الله بن مسعود أنه قال : قال رسول الله : "
مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ؛ لِيَقْتَطِعَ بِهَا
مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ ". وقال الأشعث بن قيس [9]: كان بيني وبين رجلٍ من اليهود أرضٌ فَجَحَدَنِي، فَقَدَّمْتُهُ إلى النَّبيِّ، فقال لي رسول الله : " أَلَكَ بَيِّنَةٌ ؟ " قلتُ : لا. فقال لليهوديِّ : " احْلِفْ ". قال : قلتُ : يا رسول الله، إِذًا يَحْلف ويذهب بمالي . فأنزل الله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً } [آل عمران: 77]، إلى آخر الآية [10].
إنه لموقف نادر حقًّا !
إنه اختصام بين رجلين؛ أحدهما من صحابة الرسول والآخر يهودي، فيأتيان إلى
رسول الله ليحكم بينهما، فلا يجدأمامه إلاَّ أن يطبِّق الشرع فيهما دون
محاباة ولا تحيُّز، والشرع يُلزم المدَّعِي - وهو الأشعث بن قيس - بالبيِّنَة أو الدليل، فإن فشل في الإتيان بالدليل فيكفي أن يحلف المدَّعَى عليه - وهو اليهودي - على أنه لم يفعل ما يتَّهمه به المدَّعِي، فيُصَدَّقُ في ذلك، وذلك مصداقًا لقول رسول الله : " الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ " [11].
فبِعَدْلِهِ ضرب المثل والقدوة لكل من ولي أمر الناس؛ حتى تسير الحياة كما يريدها الله, فتهنأ فيها النفوسُ, وتستريح الأفئدة، وتسعد البشرية .
د. راغب السرجاني
.........................
[1] مسلم : كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل (1827)، والنسائي (1827)، وأحمد عن عبد الله بن عمرو (6485) واللفظ له، والحاكم (7006).
[2] حِلْف الفُضُول
: سمِّي بذلك لأنَّهم تحالفوا ألاَّ يتركوا عند أحدٍ فضلاً يظلمه أحدًا
إلاَّ أخذوه له منه. وقيل: سمِّي بذلك تشبيهًا بحلْف كان قديمًا بمكة
أَيَّام جُرْهُم على التناصف والأَخذ للضعيف من القويِّ، وللغريبِ من
القاطِن، وسمِّي حِلْف الفُضُول لأَنه قام به رجال من جُرْهُم كلهم يسمَّى
الفَضْل، فقيل: حِلْف الفُضُول، جمعًا لأَسماء هؤلاء، انظر : الزبيدي : تاج العروس مادة فضل 30/179، وابن منظور : لسان العرب، مادة فضل 11/524.
[3] البخاري : كتاب الحدود، باب كراهة الشفاعة في الحد (6406)، ومسلم : كتاب الحدود، باب قطع السارق الشريف... (1688).
[4] البَزّ : الثياب، وهي أيضًا أَمتعة البَزَّاز. انظر : ابن منظور : لسان العرب، مادة بزز 5/311.
[5] أبو داود (3336)، والترمذي (1305) وقال أبو عيسى : حديث سويد حديث حسن صحيح، وأهل العلم يستحبون الرجحان في الوزن. وابن ماجه (2220)، وأحمد (19121) وقال شعيب الأرناءوط : إسناده حسن..، وقال الألباني : صحيح. انظر : صحيح الجامع (3574).
[6] البخاري عن جابر بن عبد الله : كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم (1064)، ومسلم : كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم (1064).
[7]الصحفة : إناء كالقصعة المبسوطة. انظر : ابن منظور : لسان العرب، مادة صحف 9/186.
[8] البخاري : كتاب النكاح، باب الغيرة (4927)، وأبو داود (3567)، وأحمد (12046).
[9] الأشعث بن قيس الكندي
، وفد على النبيسنة عشر، وكان من ملوك كندة، فلما مات النبي ارتدَّ، ثم
عاد إلى الإسلام، فزوَّجَهُ أبو بكر أخته، وشهد القادسية، وشهد مع عليٍّ
صفين، تُوُفِّيَ بعد قتل عليٍّ بأربعين ليلة. انظر : ابن الأثير : أسد الغابة 1/97، وابن حجر العسقلاني : الإصابة، الترجمة رقم (205).
[10] البخاري : كتاب الخصومات، باب كلام الخصوم بعضهم في بعض (2285)، ومسلم : كتاب الإيمان، باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار (138).
[11] مسلم : كتاب الأقضية، باب اليمين على المدعى عليه (1711)، والموطأ برواية محمد بن الحسن الشيباني (844) واللفظ له، والبيهقي (20990)، وفي شرح النووي لصحيح مسلم أنه قال
: وجاء في رواية البيهقي بإسناد حسن أو صحيح زيادة عن ابن عباس مرفوعًا :
"لَكِن الْبَيِّنَة عَلَى المدَّعي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ". انظر : النووي : المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج 12/3.