الحمد لله الرحيم الودود ، سبحانه من خالق عظيم ، وبخلقه رؤوف حليم ، أشهد أنه لا إله إلا هو وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرا .
أما بعد : فيا عباد الله ، اتقوا الله ، فإن ساعة عظيمة تنتظركم ، يجزى فيها الإنسان عن الصغيرة والكبيرة ، موقفها عظيم ، وأمرها جلل ، فتزودا لذلك ، وإن خير الزاد التقوى .
أحبتنا الكرام : إنها أساس الحياة ، ومنطلق النجاح ، والطريق السليم للسير ، لا يمكن لأي عمل أن يوفق إلا بها بعد الله تعالى ، ولا تستقيم خطط وآمال إلا بإحيائها ، حملها ثقيل ، وغير أنه لا بد منه ، ومسؤوليتها عظيمة ، لكنها ضرورة لحياة كريمة ، بها نهضت شريعة الإسلام ، وعليها قامت معالمه ، وعلى ضوئها يعيش الناس ، فكيف لوفقدت !!
إنها الأمانة أيها الأمناء ، إنها الأمانة التي ناءت بحملها السموات والأرض والجبال ، { إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } .
والأمانة مع ثقلها إلا أنها ليست مستحيلة ، بل تتوج بها عباد الله الصالحين ، حتى وصفهم الله بها فقال تعالى : { وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } .
والتفت إلى هذا التناغم اللفظي والمعنوي بين الإيمان والأمانة ، في قول الحبيب ‘ : ( لا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا عهد له ) رواه أحمد وإسناده حسن .
والأمانة أيها الإخوة : ليس لها حدود ، ولا لا ترتبط بعمل دون عمل ، ولا بوقت دون وقت ، ولا بشخص دون شخص ، و يكبر عليها كبير ، ولا يستثنى منها غني أو فقير ، أما كفينا عظة في أن نبينا محمد ‘ قد يسمى قبل بعثته بالصادق الأمين ، لقد أتى يهودي ليشتري منه ثوبين إلى الميسرة ، فانتهزها اليهودي لينال من جنابه العظيم ، وقال : قد علمت ما يريد ، إنما يريد أن يذهب بمالي أو بدراهمي ، فقال رسول الله ‘ : (( كذب ، قد علم أني من أتقاهم لله ، وأدّاهم للأمانة )) رواه الترمذي وصححه الألباني .
ما أعظم الشهادة في سبيل الله تعالى ، يفدي الشهيد دينه ووطنه بروحه غير أنه يحاسب على أمانته ، فعن روى ابن كثير بسنده عن عبد الله بن مسعود _ قال : ( إن الشهادة تكفر كل ذنب إلا الأمانة ، يؤتى بالرجل يوم القيامة ، وإن كان قُتل في سبيل الله تعالى فيقال : أد أمانتك ، فيقول : وأنّى أؤديها وقد ذهبت الدنيا ؟ فتمثل له الأمانة في قعر جهنم فيهوي على أثرها أبد البد ) .
وليست الأمانة أمرًا مندوبًا أو نفلاً ، بل إن أداءها على وجهها أمر واجب حتمي ، ألم نقرأ قول الله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } .
وليست الأمانة أيها الأحبة أمرًا مستغربًا على النفوس لا تعرفها إلا من دينها ، بل هي فطرة فطر الإنسان على معرفته ، غير أنه مرة يوافقه ، ومرة يخالفه ، ولكلٍ جزاء ، فعن حُذَيْفَة قَالَ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ ‘ حَدِيثَيْنِ رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا وَأَنَا أَنْتَظِرُ الْآخَرَ ،حَدَّثَنَا أَنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ [ أي في أصلها ] ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ ، وَحَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا ؛ قَالَ: يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ ،فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْوَكْتِ [ أي مثل النقطة ] ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ فَيَبْقَى أَثَرُهَا مِثْلَ الْمَجْلِ [ أي كمثل أثر العمل في اليد ] كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا [ أي مرتفعًا ] وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ فَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ ،فَيُقَالُ إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا ) رواه البخاري .
ويا لمحبة الله لصاحب الأمانة التي يرعاها في نفسه وأهله وعمله ووقته وفي كل شيء ، إنها محبة الله ، لا شيء أغلى منها ، لا يستحقها إلا الأمين ، قال الحبيب ‘ : ( من سرّه أن يحبه الله ورسوله فليصدق حديثه إذا حدّث ، وليؤد أمانته إذا ائتمن ) رواه البيهقي وحسنه الألباني .
إنه الأمانة مقياس العمل الجاد الناجح حينما تقترن بالقوة ، { إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ } ، إنها الأمانة التي كان يودع بها النبي ‘ أصحابه وجيوشه فيقول لهم : (أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكُمْ وَأَمَانَتَكُمْ وَخَوَاتِيمَ أَعْمَالِكُمْ ) رواه أبو داود وصححه الألباني .
إنها الأمانة التي كان يعلي بها شأن حذيفة فيقول : (إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينًا وَإِنَّ أَمِينَنَا أَيَّتُهَا الْأُمَّةُ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ ) رواه البخاري .
إن وراء الأمانة لسؤال ونقاش وجزاء ، هكذا تحملها الإنسان ، فليؤدها بكل جوانبها وحقوقها ، قال النبي ‘ : ( كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ الْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ قَالَ وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ) رواه البخاري .
والمجتمع الأمين يقدر الأمناء في كل مسؤولياتهم ، يجل فيهم سمو أخلاقهم ، وقوة إرادتهم ، ويبقي لهم ذكرًا خالدًا في الأنفس وعلى سطور التاريخ ، فوالله إنك لتسمع مثلما أسمع عن ذلك التاجر في صدقه وأمانته ، حتى ترى من الناس معه إقبالاً وحبًا وجميل معاملة ، ونبل تعاون ، لأنه ترفع بأمانته عن الغبن في الأسعار ، والغش في البضاعة ، فيعطيه الله تعالى بركة في رزقه وصحته وذريته ، كم ترى الحرمان من السعادة في حياة الغشاشين ، وهموا بغشهم لغيرهم أنهم أكثر ذكاء وفطنة ودهاء ، غير أنهم باءوا بالاحتقار والازدراء من عامة الناس قبل خاصتهم ، سمعوا ذلك بأنفسهم ، أو لاكتهم الألسنة من خلف ظهورهم في الدنيا ، أو حكمت عليهم بعد موتهم ، فبئس الخيانة وصفًا وذكرا وشؤما .
ويعظم خطر الأمانة ، حينما ندرك أنه معنى خفي ، إقامته على وجهه ورعايته كما يجب إنما يصدر من قلب صادق مع الله ، ومن نفس قوية الإيمان ، ومن يد كريمة لم تتجرع ذل البخل ولا دناءته ، ومن عين لا يبهرها بريق الخيانة الزائف ، إن للأمن لنفس لوامة لا تتركه يتطاول على حقوق غيره ظلمًا أو بهتانًا أو سرقة أو غلولاً ، وإلا فأين الأمانة :
لا ترجع الأنفس عن غيها ما لم يكن منها لها زاجر
قف بكل حزم أمام هذه النفس التي تنتشلك من سمو الأمانة إلى مهاوي الخيانة لتقول لها : قفي أيتها النفس ، فالله بصير بحالي ، سميع لكلامي ، لا بركة لي في غير حقي ، ولا حق لي في ملك غيري ، وسيسألني الله عن الصغيرة والكبيرة ، فيا لقوة المحاسبة ، ونجاح النتيجة ، نفس مؤمنة أمينة ، ومجتمع نزيه نظيف ، وحضارة على أسس متينة ، ورب راضٍ غير غضبان .
اللهم احشرنا في زمرة الأمناء ، وأعنا على أداء الأمانة ، نستغفرك ونتوب إليك ، فإنك أنت التواب الرحيم .