باب الاغتباط في العلم والحكمة وقال عمر تفقهوا قبل أن تسودوا قال أبو عبد الله وبعد أن تسودوا وقد تعلم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في كبر سنهم
73 حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان قال حدثني إسماعيل بن أبي خالد على غير ما حدثناه الزهري قال سمعت قيس بن أبي حازم قال سمعت عبد الله بن مسعود قال قال النبي صلى الله عليه وسلم لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فسلط على هلكته في الحق ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها
الحاشية رقم: 1
قوله : ( باب الاغتباط في العلم ) بالغين المعجمة .
قوله : ( في العلم والحكمة ) فيه نظير ما ذكرنا في قوله بالموعظة والعلم ، لكن هذا عكس ذاك ، أو هو من العطف التفسيري إن قلنا إنهما مترادفان .
قوله : ( وقال عمر : تفقهوا قبل أن تسودوا ) هو بضم المثناة وفتح المهملة وتشديد الواو أي : تجعلوا سادة . زاد الكشميهني في روايته : " قال أبو عبد الله " أي : البخاري : " وبعد أن تسودوا - إلى قوله - سنهم " [ ص: 200 ] . أما أثر عمر فأخرجه ابن أبي شيبة وغيره من طريق محمد بن سيرين عن الأحنف بن قيس قال : قال عمر . فذكره ، وإسناده صحيح ، وإنما عقبه البخاري بقوله : " وبعد أن تسودوا " ليبين أن لا مفهوم له خشية أن يفهم أحد من ذلك أن السيادة مانعة من التفقه ، وإنما أراد عمر أنها قد تكون سببا للمنع ; لأن الرئيس قد يمنعه الكبر والاحتشام أن يجلس مجلس المتعلمين ، ولهذا قال مالك عن عيب القضاء : إن القاضي إذا عزل لا يرجع إلى مجلسه الذي كان يتعلم فيه . وقال الشافعي : إذا تصدر الحدث فاته علم كثير . وقد فسره أبو عبيد في كتابه : " غريب الحديث " فقال : معناه تفقهوا وأنتم صغار ، قبل أن تصيروا سادة فتمنعكم الأنفة عن الأخذ عمن هو دونكم فتبقوا جهالا . وفسره شمر اللغوي بالتزوج ، فإنه إذا تزوج صار سيد أهله ، ولا سيما إن ولد له . وقيل : أراد عمر الكف عن طلب الرياسة لأن الذي يتفقه يعرف ما فيها من الغوائل فيجتنبها . وهو حمل بعيد ، إذ المراد بقوله : " تسودوا " السيادة ، وهي أعم من التزويج ، ولا وجه لمن خصصه بذلك ; لأنها قد تكون به وبغيره من الأشياء الشاغلة لأصحابها عن الاشتغال بالعمل . وجوز الكرماني أن يكون من السواد في اللحية فيكون أمرا للشاب بالتفقه قبل أن تسود لحيته ، أو أمرا للكهل قبل أن يتحول سواد اللحية إلى الشيب . ولا يخفى تكلفه . وقال ابن المنير : مطابقة قول عمر للترجمة أنه جعل السيادة من ثمرات العلم ، وأوصى الطالب باغتنام الزيادة قبل بلوغ درجة السيادة . وذلك يحقق استحقاق العلم بأن يغبط صاحبه ، فإنه سبب لسيادته . كذا قال . والذي يظهر لي أن مراد البخاري : أن الرياسة وإن كانت مما يغبط بها صاحبها في العادة لكن الحديث دل على أن الغبطة لا تكون إلا بأحد أمرين : العلم ، أو الجود ، ولا يكون الجود محمودا إلا إذا كان بعلم . فكأنه يقول : تعلموا قبل حصول الرياسة لتغبطوا إذا غبطتم بحق . ويقول أيضا : إن تعجلتم الرياسة التي من عادتها أن تمنع صاحبها من طلب العلم فاتركوا تلك العادة وتعلموا العلم لتحصل لكم الغبطة الحقيقية . ومعنى الغبطة تمني المرء أن يكون له نظير ما للآخر من غير أن يزول عنه ، وهو المراد بالحسد الذي أطلق في الخبر كما سنبينه .
قوله : ( حدثنا إسماعيل بن أبي خالد على غير ما حدثناه الزهري ) يعني أن الزهري حدث سفيان بهذا الحديث بلفظ غير اللفظ الذي حدثه به إسماعيل ، ورواية سفيان عن الزهري أخرجها المصنف في التوحيد عن علي بن عبد الله عنه قال : قال الزهري عن سالم . ورواها مسلم عن زهير بن حرب ، وغيره عن سفيان بن عيينة قال : حدثنا الزهري عن سالم عن أبيه . ساقه مسلم تاما ، واختصره البخاري . وأخرجه البخاري أيضا تاما في فضائل القرآن من طريق شعيب عن الزهري حدثني سالم بن عبد الله بن عمر . . . فذكره وسنذكر ما تخالفت فيه الروايات بعد إن شاء الله تعالى .
قوله . ( قال سمعت ) القائل هو إسماعيل على ما حررناه .
قوله : ( لا حسد ) الحسد تمني زوال النعمة عن المنعم عليه ، وخصه بعضهم بأن يتمنى ذلك لنفسه ، والحق أنه أعم ، وسببه أن الطباع مجبولة على حب الترفع على الجنس ، فإذا رأى لغيره ما ليس له أحب أن يزول ذلك عنه له ليرتفع عليه ، أو مطلقا ليساويه . وصاحبه مذموم إذا عمل بمقتضى ذلك من تصميم أو قول أو فعل . وينبغي لمن خطر له ذلك أن يكرهه كما يكره ما وضع في طبعه من حب المنهيات . واستثنوا من ذلك ما إذا كانت النعمة لكافر أو فاسق يستعين بها على معاصي الله تعالى . فهذا حكم الحسد بحسب حقيقته ، [ ص: 201 ] وأما الحسد المذكور في الحديث فهو الغبطة ، وأطلق الحسد عليها مجازا ، وهي أن يتمنى أن يكون له مثل ما لغيره من غير أن يزول عنه ، والحرص على هذا يسمى منافسة ، فإن كان في الطاعة فهو محمود ، ومنه - فليتنافس المتنافسون . وإن كان في المعصية فهو مذموم ، ومنه : " ولا تنافسوا " . وإن كان في الجائزات فهو مباح ، فكأنه قال في الحديث : لا غبطة أعظم - أو أفضل - من الغبطة في هذين الأمرين . ووجه الحصر أن الطاعات إما بدنية أو مالية أو كائنة عنهما ، وقد أشار إلى البدنية بإتيان الحكمة والقضاء بها وتعليمها ، ولفظ حديث ابن عمر : " رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار " والمراد بالقيام به العمل به مطلقا ، أعم من تلاوته داخل الصلاة أو خارجها ومن تعليمه ، والحكم والفتوى بمقتضاه ، فلا تخالف بين لفظي الحديثين . ولأحمد من حديث يزيد بن الأخنس السلمي : " رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ، ويتبع ما فيه " . ويجوز حمل الحسد في الحديث على حقيقته على أن الاستثناء منقطع ، والتقدير نفي الحسد مطلقا ، لكن هاتان الخصلتان محمودتان ، ولا حسد فيهما فلا حسد أصلا .
قوله : ( إلا في اثنتين ) كذا في معظم الروايات " اثنتين " بتاء التأنيث ، أي : لا حسد محمود في شيء إلا في خصلتين . وعلى هذا فقوله : " رجل " بالرفع ، والتقدير خصلة رجل حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه . وللمصنف في الاعتصام : " إلا في اثنين . وعلى هذا فقوله : " رجل " بالخفض على البدلية أي : خصلة رجلين ، ويجوز النصب بإضمار أعني وهي رواية ابن ماجه .
قوله : ( مالا ) نكره ليشمل القليل والكثير .
قوله : ( فسلط ) كذا لأبي ذر ، وللباقين فسلطه ، وعبر بالتسليط لدلالته على قهر النفس المجبولة على الشح .
قوله : ( هلكته ) بفتح اللام والكاف أي : إهلاكه ، وعبر بذلك ليدل على أنه لا يبقي منه شيئا . وكمله بقوله : " في الحق " أي : في الطاعات ليزيل عنه إيهام الإسراف المذموم .
قوله : ( الحكمة ) اللام للعهد ; لأن المراد بها القرآن على ما أشرنا إليه قبل ، وقيل : المراد بالحكمة كل ما منع من الجهل وزجر عن القبيح .
( فائدة ) : زاد أبو هريرة في هذا الحديث ما يدل على أن المراد بالحسد المذكور هنا الغبطة كما ذكرناه ، ولفظه : " فقال رجل ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان ، فعملت مثل ما يعمل " أورده المصنف في فضائل القرآن . وعند الترمذي من حديث أبي كبشة الأنماري - بفتح الهمزة وإسكان النون - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول . . فذكر حديثا طويلا فيه استواء العالم في المال بالحق والمتمني في الأجر ، ولفظه : " وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا ، فهو صادق النية يقول : لو أن لي مالا لعملت مثل ما يعمل فلان ، فأجرهما سواء " ، وذكر في ضدهما : " أنهما في الوزر سواء " وقال فيه : حديث حسن صحيح . وإطلاق كونهما سواء يرد على الخطابي في جزمه بأن الحديث يدل على أن الغني إذا قام بشروط المال كان أفضل من الفقير . نعم يكون أفضل بالنسبة إلى من أعرض ولم يتمن ; لكن الأفضلية المستفادة منه هي بالنسبة إلى هذه الخصلة فقط لا مطلقا . وسيكون لنا عودة إلى البحث في هذه المسألة في حديث : " الطاعم الشاكر كالصائم الصابر " حيث ذكره المؤلف في كتاب الأطعمة إن شاء الله تعالى .